المرأة كائن تولد الحياة وعندما تكون الحياة مختلفة فهذا يعني غنى

ربما من النادر أن يخطر ببال أحد أن يبدأ بـ”الطبيعة والمعنى” أو “جدلية الطبيعة”. ما الذي يراد التعبير عنه بهذا؟ دعوني أوضح قليلاً . المعنى يشير إلى العلاقة والمشاركة: إنه بطبيعته مفهوم تعاوني واجتماعي. المعنى، أولاً وقبل كلشيء، هو معنى شيء ما. لا يمكن الحديث عن معنى مستقل عن الوجود. إذاً، كيف يتكون المعنى؟ يُطوّر الإنسان قوتهعلى الفهم من خلال الاستماع إلى الطبيعة. ولهذا فإن أول أسلوب للتعلم كان ميميتياً )تقليدياً(. الإنسان ينُصت للطبيعة ثميُحولها من خلال هذا الاستماع.

لكن خلال التاريخ الاجتماعي، تضاءلت طريقة التعلم عبر الاستماع للطبيعة تدريجي اً.  فكلما تطورت اللغة الرمزيةوالعقل التحليلي، بدأ الإنسان في تعريف الطبيعة من خلال مفاهيمه الخاصة، وهو ما أدى إلى الاغتراب عن الطبيعة. وقد بلغ هذا الاغتراب ذروته في مرحلة الحداثة الرأسمالية. الفكر السائد في كل حقبة يصبح هو الحقيقة في تلك المرحلة. أي أنه إذا كان هناك فكر مهيمن في فترة معينة، فهو يُعتبر “حقيقة” تلك الفترة. هناك واقع، وله تعبير، وهذا التعبيربدوره يمثل فكراً أو خيالاً . الدورة البيئية الكبرى انتهت تقريباً قبل خمسة عشر ألف سنة. هناك بدأ عصر مناخي جديد. هذا العصر مهد للنيوليت،وبدأت معه مرحلة جديدة.  في هذه المرحلة، يخترع الإنسان اللغة، ويطوّر الفكر الرمزي، ويحقق قفزةً نحو الحضارةوالدولة.

قد تثير العلاقة بين الطبيعة والمعنى الفضول لدى البعض، وذلك لتعزيز التفكير الفلسفي. هذا الفضول مبرّر، لأن العلم يبدأ بالفضول. ولكي نشبعه أو نفتح له سبيلاً، أرى أننا بحاجة إلى تفكير فلسفي عن الآخر أو جدلية الطبيعة. هنا، كل ماكشفته العلوم—في الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء—وكذلك كل ما تنسبه الفلسفة أو حتى الأساطير إلى نفسها من أفكار،أردت غربلتها جميعاً للوصول إلى نتيجة. إنه تفكير تأملي، ولا أقول إنه الحقيقة المطلقة. إن الطبيعة، كواقع آخر،تستحق الفهم—ونحن يمكن أن نسمي ذلك “الكون”. لا يزال هناك أمور عديدة لم تفُهم بعد. يتحدث البعض عن الانفجارالكبير: ما هو هذا الانفجار؟ ماذا كان موجوداً قبل حدوثه؟ يقولون إنه منذ ذلك الحين تطور الكون على مدى 13 مليارسنة، وهذا  –برأيي–  يصعب إدراكه عقلياً. فيزيائياً. ظهر ما يُعرف بإشعاع الخلفية الكونية. يخطر طبيعياً في عقلالإنسان التفكير في ما قبل الانفجار وما بعده، حيث هل كان هناك كون قبل الانفجار أم لا؟ يقال إن هذا الانفجار بدأبكائن أصغر من رأس الدبوس بمليار مرة، ومنه نشأ الكون الحالي. الآن مجرتنا “مجرة درب التبانة” تحتوي على200–300 مليار نجم، لكل منها عشرات الكواكب، ويقُدر عدد المجرّات بالمليارات… كيف يمكن تفسير نشوء كل ذلكمن رأس دبوس؟ يحاول العلم تفسير ذلك بفيزياء الكوانتوم: هنا مبدأ الشك ومنطق “أو وأيض اً.” كل هذا يشير إلى أنها كانت مرحلة المادية الخشنة وقد تم تجاوزها وهو أمر جيد. أي أن الكون ليس كما كانوا يزعمون،فالنظريات التي تقول إن الكون يدور حول الشمس قد أفلست، ومن ثم ظهرت نظرية درب التبانة، والآن الثقب الأسود،والمادة المظلمة والطاقة المظلمة… وهذه المصطلحات في ازدياد.

أما الآن، فندخل مباشرة في “الطبيعة المجتمعية والإشكالية”. المجتمع هو “طبيعة” أيضاً، لكن نسمي ذلك “الطبيعةالثانية”، إنه صحيح. وحسب قناعتي هناك اختلاف كبير للطبيعة المجتمعية عن الطبيعة البيئية وخصوصيتها الأساسية هي مرونة الفكر. أنا لا أجادل بالفكر الفطري الطبيعي، بل بفكر الطبيعة المجتمعية المنسوجة من طرف الإنسان التيابتدأت بالرمزية ثم العلمية ثم الفلسفية ووصولاً إلى الدينية التي اجتمعت كلها في طبيعة القاعدة الفكرية، الطبيعةالمجتمعية ليست حجرة وليست نباتاً وليست حيواناً بل هي تعتمد على الفكر وهذا هو الاختلاف الموجود في الطبيعة المجتمعية، فعندما ننطق بكلمة المجتمع يخطر الفكر في بالنا. هذه كلها مراحل لتغير المجتمعات. كانالمجتمع السومري هو ذروة الميثولوجيا، إن الذي جعل  من المجتمع السومري مؤثراً إلى هذه الدرجة كونه حاضنةًلمجتمع الدولة وموطنه كان حوض مزوبوتاميا العليا بين دجلة والفرات حيث التربة الخصبة والأساطير المتولدة لدىفكر تلك الأرض ووصلت إلى الذروة هناك.

وفي النهاية الإنسان هو الذي يؤسس الطبيعة المجتمعية، أي أن الطبيعة المجتمعية هي حقيقة قائمة على محور النوع البشري، الحيوانات أيضاً تحيا على شكل مجموعات، هذه مسألة أخرى وهي تحيا على التقليد والغرائز، كما هناك غرائزلدى البشر وميول المحاكاة )التقليد(  أمر موروث من الحيوانات،  فالطبقة الأدنى من الدماغ البشري متوارث منالحيوانات، وما نسميه بالدماغ الصغير هو مسؤول عن الغرائز. الفكر الأسطوري يتجاوز الفكر التقليدي وهذا ما يتمثلفي الدماغ الوسط في القسم الذي نسميه بالدماغ المتوسط والإنسان الذي تطور لديه الدماغ المتوسط هو الإنسان الذينعرفه، بالطبع يحدث كل ذلك بشكل متداخل وليست هناك حدود فاصلة قطعية فيما بين هذه المراحل، بل كلها متداخلة،أي هناك كون مذهل

الإشكالية المجتمعية تبدأ مع الدولة فيما بعد الحضارة كما ذكرت، هكذا تبدو الأمور، أي أنها لم تبدأ مع الدولة بل بدأتقبل ذلك بكثير ما قبل 30 ألف عام. وبالنتيجة الذكورية لم تتشابه مع المرأة، بل هي بنية متفوقة، حيث تطورت شخصيةمختلفةٌ فيما بين الرجل والمرأة بما يعادل الجبال، وعلينا ملاحظة أن جينات المرأة تختلف عن جينات الرجل بفرقٍ بسيط جداً، ففي نهاية الأمر إن ما نسميه بالتفكير هو أمر يخص البشر وليس هناك فرق بين الرجل والمرأة على الصعيد الفكري، فموضوع الفكر يتجاوز هذه الثنائية تماماً حيث لا يمكن التفريق بين الميدان السياسي للرجل أو للمرأة، بل هوميدان خاص بالبشرية تماماً. كما يمكننا تعميم هذا الواقع على الاقتصاد والفنون وحتى على الأديان، وحدث اختلاف بيندين المرأة ودين الرجل ولكن لا يمكن تسمية ذلك بحقيقة واقعة، فليس هناك فكر خاص بالرجل ولا فكر خاص بالمرأة،فهذه الحقيقة تعبر عن الإشكالية تماماً، علماً بأنها ليست مشكلة، بل تعني تعلقاً بالإشكالية لإدامتها، وهذا أمر يتعارض معالفكر الجدلي. الفامينية هي فكر خاص بالمرأة وما يقابل ذلك هي الرجولة، أي الفكر المتعلق بالرجولة فقط، هذا يعنيتخلفاً وتصلباً، علماً بأن مثل هذا التصلب غير موجود في الطبيعة، أما الجدلية القائمة في الطبيعة فتنعكس على المجتمعوالجدلية الموجودة في المجتمع تنعكس على الحياة وتحقق تنوعاً في حيوات مختلفة، الحياة مختلفة والاختلاف يعبر عنالحياة، وعندما تكون الحياة مختلفة فهذا يعني غنى، والثنائية المتقابلة المجمدة تعني الهوة، إنهم يتضاربون في هذه الهوةوهذه هي الحقيقة التي تكمن خلف الجرائم الأسرية، والنظرة التي تصبو إلى تلك الجريمة تفرض الجمود على المرأة،حيث أن المرأة هي المرأة المطلقة والرجل هو الرجل المطلق. وعندما لا تتوفر سيولة الفكر الديالكتيكي )الجدلي(، فإنأحدهما يخون الآخر بشكل مطلق وأحدهما يضرب الآخر ويرد عليه الآخر ومن هنا ينبع أساس المشكلة. وكما ذكرتسابقاً فإن هذا الوضع هو إشكالية مذهلة ويجب تجاوزها.

أعتقد أنني وضعت الأساس الصحيح لهذه الإشكالية تحت هذا العنوان بشكل صحيح. لقد فرقنا سابقاً بين المدينة والقريةضمن إطار الدولة، وأردنا ربط ذلك بالطبقية، لكن هذا لا يكفي. نعم، توجد إشكاليات ناشئة عن الصراع الطبقي، وعن التناقض بين الدولة والكومون، وسأتناولها بالتفصيل. هذه أمور جادة ولكن الإشكالية الأساسية في المجتمع تبدأ بصراعالعنصرين الذكوري والأنثوي. حين يتحول هذا التفكير إلى تفكير جامد، ويغدو أعمى، ويرى ذاته كحقيقة مطلقة، تظهرهذه الإشكالية أولاً عند المرأة. عصر الآلهة الإناث، والبحوث الأثرية، كلها تشير إلى أن مثل هذا العصر قد وُجد فعلاً قبل 30 ألف عام. تم توثيق وجود هذه المرحلة عبر تماثيل الإلهة الأم المنتشرة من أوراسيا إلى أوروبا الغربية، ومن الشرق الأوسط إلى أفريقيا. فما معنى الألوهة الأنثوية؟ المرأة كائن تولد الحياة، فعملية الولادة تحدث لدى المرأة. فميلاد النوع البشري لدى المرأة أمر مختلف ويجب فهمه بشكل صحيح. تشير جميع الدراسات إلى أن تكاثر النباتات وانقسامالخلايا الأولى أمر سهل، وحتى في عالم الحيوان، يولد الجنين ويتمكن من الوقوف خلال 24 ساعة. هذا الأمر مشتركبين جميع الحيوانات، وإن كانت المدة تختلف. أما عند الإنسان، فالوضع مختلف تماماً: الولادة صعبة، وهذا لا يكفي، بللا يستطيع العيش بمفرده ويحتاج إلى دعم ومساندة الأم لمدة تصل إلى خمس أو ست سنوات. أي أن فترة النمو لدىالإنسان قد تصل إلى سبع سنوات، بينما هي عند الحيوان لا تتجاوز يوماً واحد اً.  ما يعنيه ذلك هو أن الطفل لا يمكنه النجاة دون محيط اجتماعي يتمركز حول الأم. لأن هوية الأب غير واضحة. لا توجد علاقة واضحة بين المولود والأب. وأظن أن القدرة على التفكير الحر مهمة جدا ً. برأيي، أكثر ما يجعل الإنسان إنساناً، كما في أفكار سقراط، هو فكرة الحرية،المرتبطة بالزواج، وهي ما تبقيني واقفاً. هذا واضح جداً، وهي ما تبقيكنّ أنتنّ أيضاً. إذا فقدتنّ فكرة الحرية، فستنتهينّ حتماً. وبالتالي، انطلاقتنا الجديدة  —  الاشتراكية الجديدة، الوجود الكردي الجديد، الهوية الكردية الجديدة، حرية الكرد—  ستتطور على هذا الأساس.  عندنا، النقد للحضارة، والنقد للحداثة، والنقد لعبودية المرأة، كلها تتطور بشكل كبير. لدينا فرصة لتجاوز المشكلة على الأقل على المستوى الفردي، وهناك تقدم على المستوى الجماعي أيضاً. برأيي، هذا هوأهم مساهماتنا في الاشتراكية. تحت عنوان “مجتمعية المرأة والإشكالية”، قلت هذه الأمور كمقدمة.

أبني هذا على الأساس التالي: إن المجتمع هو في جوهره حدث كومونالي. وقد قدمتُ أعلاه تعريف الكلان، وهي التجسيدالحقيقي للمجتمع. والمجتمعية تعني الكومون. الكومون البدائي يعني الكلان.  أما الكلمة نفسها “كومون” فقد تطورت،حسب ما نعلم، مع صعود الثقافة في منطقة ميزوبوتاميا. في اللغة الكردية، مشتقة من “كوم”. علينا أن نحلل على أيأساس بدأت نشأة الدولة، المدينة، الملكية والطبقات في مجتمع السومريين.  من الصواب أن نبدأ بالدولة. لكن أين المجتمع؟ فالمجتمع هو الأساس. لأنه حتى عام 4000 قبل الميلاد، كانت صيغة التطور المجتمعي هي الكلان. يمكنكم أن تسموها قبيلة أو عشيرة، لكن القبيلة هي اتحاد للكومونات فعلياً. القبيلة هي كومون، الأسرة لم تكن قد تشكلت بعد. الأسرةوالقبيلة هما في الحقيقة يحملان المعنى نفسه. لم تكن هناك تمايز كبير بينهما بعد. مع بداية العصر النيوليتي، بدأ تطورلافت للنظر. القبيلة كانت مرتبطة غالباً بالنيوليتي. أما ما قبل النيوليتي فهو الكلام. يمكننا أن نتعلم من لغتنا نفسها العلاقة بين “كوم” في الكردية وكلمة كومون. “كوم” و”كومبون” تعنيان “كومون”؛ أي “الاجتماع، التجمّع”. وهي كلمة لا زلنا نستخدمها، وهذا يدل على أن اللغة الآرية قد خرجت من هنا، ولها تاريخ لا يقل عن عشرة آلاف سنة. ومن الواضح أن المجموعة اللغوية ذات الأصل الآري قد تطورت أيضاً حول هذا المفهوم الكوموني. الكلمة الكردية “كوم” تثبت هذا. اشتقاقات الكلمة تؤكد ذلك. “كوماغيني”  هي اسم لدولة،  وتعني “رئيس القبيلة”؛ الدولة تتكون من رئيس القبيلة،والأعضاء المتضررون من مصالح القبيلة يُشكّلون الكومون. وهذا هو الواقع فعلاً. الأمر بسيط. لم أقم باكتشاف عظيم.

القائد عبد اللە اوجالان

 

هذه المقالة مأخوذة من العدد الثاني لمجلة نيسان.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى